الفصل الثاني

من كـتــاب المواضـيـع الـثـقـافـيـة

للكاتب عبد الله خمّار

 

مقتطفات من المواضيع الثقافية

تمرين أ : هذه بعض النصوص المقتطفة من روايات جزائرية وعربية وعالمية، يعرضها الروائيون بأساليب متنوعة، فيروي أحداثها بعضهم بنفسه أو على لسان أحد أبطاله، بطريقة السرد المباشر، أو يمزجها بالحوار، أو يلجأ إلى أسلوب "مناجاة النفس" و"استعادة الذكريات"، يُرْجى من القارئ قراءتها بإمعان ثم الإجابة عن أسئلتها:

1. درس في التعبير (توفيق الحكيم ):

       «- يا "محسن" انتخب موضوعا، ثم تكلم فيه! ."

فوقف الفتى حائرا مترددا. إنه لم يحضر موضوعا ما وليس في ذهنه الساعة شيء وطال وقوفه وتردده فقال المدرس بلهجته المتئدة:  

  "اكتب رأس الموضوع على السبورة، ثم قسمه إلى نقط كالمعتاد! "

فقال "محسن" في نفسه: "و أنا عارف إيه الموضوع" ؟ . . .

وفجأة خطر له خاطر احمر وجهه له، و طرده من فكره في الحال، لكنه لم يلبث أن عاد إليه، ولا يدري أي شجاعة في تلك اللحظة، وأي قوة كانت تدفعه إليه، ولعل شعوره القوي الساعة أقنعه أنه لا يستطيع الكلام الآن بإسهاب أو لذة، إلا في هذا الموضوع. وتناول في الحال "الطباشيرة" وكتب بحركة اندفاع عنيفة:

  " رأس الموضوع: الحب".

  ما كادت تظهر هذه الكلمة على السبورة، حتى هاج الفصل وماج، ودهش المدرس من انقلاب الفصل أمامه، ولم يدر بعد سببه، فدق بقلمه فوق منضدته طالبا السكوت وهو يصيح بهم:

  "خبر إيه ؟.  خبر إيه؟ ."                            

 ورأى أنظارهم متجهة نحو السبورة، فالتفت إليها هو الآخر، ورأى كلمة "الحب" فلم يتمالك نفسه أن صرخ مستنكرا:

 "الله الله!. ما شاء الله." امشي انجر اقعد محلك. بلاش قلة حيا ومسخرة!"

وبهت "محسن" قليلا؛ لأنه لم يعتد هذه المعاملة من مدرسيه، فوقف مرتبكا حائرا، ولكنه لم يفقد تلك الثقة والقوة التي دفعته إلي كتابة تلك الكلمة الجريئة، أمام طلبة مساكين اعتادوا أن يسمعوا كلمة العلم والمذاكرة والتحصيل والمثابرة، ولكنهم  لم يسمعوا كلمة "الحب" ولا "الشعور" ولا "القلب"، وإن سمعوها فمُحَرًّفٌ معناها إلى المقصد الدنيء. كأنما الحياة ليس فيها غير شيئين لا ثالث لهما: العلم والفساد. فالعلم عندهم مرادف للمذاكرة والنجاح في الامتحان، والفساد مرادف للحب والقلب وكل ما خرج عن مواد الامتحان. هذه هي الفضيلة والرذيلة كما تلقن لهؤلاء الصغار.

  ورأى "الشيخ علي" وقوف "محسن" وارتباكه وتأدبه برغم ذلك، وذكر سمعته الطيبة وأخلاقه المعروفة عنه، منذ مجيئه السنة الماضية إلي تلك المدرسة. فتلطف المدرس قليلا؛ لكنه قال في لهجة لا تخلو من العتب القارص:

"جرى لك إيه النهار ده ؟. اتجننت؟."

فلم يجب "محسن" ومرت برأسه فكرة ثائرة ضد هذا "الشيخ" الذي لا يفهم أكثر مما يفهم أي واحد من أولئك التلاميذ، وخيل إلى "محسن" أنه يرى ويحس أشياء عظيمة. . عظيمة جدا. . لن يراها واحد "كالشيخ علي"!

  ونظر "الشيخ علي" في دفتره لينتقي طالباً آخر غير "محسن"! ولكن الفصل بالإجماع تشجع وقال في تحمس غير معتاد:

  "عايزين الموضوع ده! عايزين الموضوع ده! تكلم يا "محسن" . . قل يا "محسن"!

ونظر "محسن" إلي الفصل، فأدرك أن هذه الكلمة قد أثارت حب استطلاع كبير عند هؤلاء الجهلاء الصغار، وأن هؤلاء التلاميذ يبدو عليهم التعطش لموضوع كهذا. رأى "محسن" صاحبه "عباس" على الأخص في رأس الطالبين، يلوح بيده إلى صديقه، وعلى وجهه ابتسامة الذي كاد يفهم، وتنقشع عن عينيه سحب! عندئذ تشجع "محسن" وعزم على الكلام بأي ثمن، ولكنه رأى من هيئة هذا "الشيخ الحنبلي" أن لا حيلة معه! ..

وهنا خطر "لمحسن" خاطر يدل على ذكاء. .فتناول في الحال الطباشيرة، وكتب تحت كلمة "الحب" هذه السطور:

"ينقسم الحب إلى ثلاثة أقسام: حب الله عز وجل: وهو حب الخشوع والاعتراف بالفضل. وحب الوالدين: وهو حب الدم، وحب الجمال وهو: "حب القلب".

وهلل الفصل وفي مقدمته "عباس" طالبين موافقة "الشيخ" على الموضوع؛ إذ هو أدبي محض. والتفت الشيخ إلي السبورة مرة أخرى بعد أن وضع منظاره، وجعل يقرأ القسم الأول ثم الثاني بصوت فيه رنة القبول والموافقة، ولكنه ما إن بلغ القسم الثالث حتى عاد فحزن وتوقف. . . ونظر إلى "محسن" وقال: "اشطب نمرة ثلاثة! "

فتردد "محسن" قليلا. . ولكن "الشيخ علي" لم يلن، ولم يتراخ في هذه المرة برغم احتجاج الفصل وتوسلاته، وأخيراً لم ير "محسن" بُداً من شطب القسم الثالث؛ غير أنه صمم في سره أن يتكلم عنه خلال كلامه عن القسمين الأولين؛ كأنما هو يقارن بين العلل والأسباب! . وهكذا رضي "الشيخ علي" بإثبات كلمة "الحب" على السبورة!. .

وهكذا اندفع "محسن" يتكلم والفصل مصغ إليه في هدوء وانتباه لم يسبق لهما مثيل في أي حصة طول السنة، وكان "محسن" كلما عرج على موضوع القلب تذمر"الشيخ علي" وزمجر ودمدم كالقط إذا لمح فأراً، ولكن الفصل كان يقبل بعيونه وأسماعه مسدداً النظر إلى "محسن" ومخارج ألفاظه في لذة وفرح عجيبين؛ كأنما هم حقيقة يستفيدون شيئا، بل أكثر من ذلك. . أكثر من ذلك بكثير..كأنما هم يسمعون منه شيئا يحسونه كلهم دائما، ولكنهم ما كانوا يجرؤون على التعبير عنه أو أنهم كانوا يجهلون ما يحسون. يجهلون وجود الجمال في العالم! ويجهلون وظيفة القلب في كيانهم.. ويجهلون المعنى الأسمى للحياة!. شعر "محسن" بذلك فيهم كما شعر بأن سر انتباههم العجيب إليه، وسرورهم الهائل المنبثق من عيونهم به وبما يقول لهم، إنما مصدره شيء واحد:

"هو أنه يعبر عما في قلوبهم!. . ."

                                        عودة الروح ص 126

الأسئلة:

1- لماذا هاج الصف وماج عندما رأى كلمة"الحب" على السبورة؟

2- لماذا استنكر الشيخ علي اختيار هذا الموضوع ؟

3- لماذا أثار هذا الموضوع حب الاستطلاع لدى التلاميذ؟

4- كيف استطاع محسن إقناع الشيخ بتقديم موضوعه؟ وماذا فعل الشيخ أثناء تقديم محسن للموضوع؟

5- كيف كان رد فعل التلاميذ؟ وما الذي شد انتباههم وسرورهم بطرح هذا الموضوع؟

6- ما هدف الكاتب من النص؟ وما الأسلوب الذي يطالب به في التعليم؟ وهل توافقه أم تخالفه في ذلك؟ علل إجابتك؟

7- ما رأيك بمناهج التعليم وبأساليبه المتبعة عندنا؟ اذكر إيجابياتها وسلبياتها بالنسبة إليك كتلميذ.

8- لماذا استعمل الكاتب بعض العبارات العامية في الحوار؟

2. الخوف من الامتحان(مولود فرعون):

       عاد" فورولو" إذن إلى الثانوية، حاملا شهادة الإعدادية. كان يذهب إليها للسنة الأخيرة!  كانت شهادته تكسبه بعض الثقة، رغم أن حال أهله المادية كانت أشد ضنكاً من أي وقت مضى، وفي القرية لم يعد أحد يعتبره غلاماً. كان أبوه يسأله رأيه في كل غرض من الأغراض، وكان بعض الناس يأتونه لاستشارته أو كي يكتب لهم ما عسر عليهم من الرسائل. كانوا يعظمونه إلا أن "فورولو" لم يكن يغتر بذلك البتة. كان يود لو نصحوه هو، ولو شجعوه وآزروه. كان يشعر أنه وحيد. وكانوا يثقون به بينما ودَّ لوْ وثق بأحد، واتبع نصائحه في ثقة عمياء، وأن لا يكون له من المشاغل سوى برنامجه الدراسي. قال له أبوه قبل رحيله: "اذهب يا ولدي، كان الله في عونك، سيدلك على سواء السبيل."

 وقبلته أمه في حنان، وهي تبتسم في زهو ساذج، كان الأمر واضحا. لم يعد أبواه يشكان في شيء. كانا واثقين من نجاحه، فابنهما سينجح بطبيعة الحال مرة أخرى وسيكونان من السعداء.

أما هو فكان يعلم حق العلم أنه إن اخفق فستغلق في وجهه إلي الأبد أبواب مدرسة ترشيح المعلمين لأنه قد بلغ السن القصوى المسموح بها للتقدم إلي المناظرة. لا بد له أن يعمل بمفرده في ظروف سيئة. لم يكن لأهله أن يدركوا أنه في حال إخفاقه سيستسمحهم الرحيل إلى فرنسا. كانت هذه الفكرة تراوده كامل الصيف. ففي فرنسا سيجد من يشغـِّله عاملاً يدوياً في احد المصانع، أما في الجزائر فلم يكن أمامه إلا واحد من هذين الخيارين: إما أن يصبح معلما، و معناه اليسر للعائلة بأسرها، أو أن يعود راعياً كما كان.

وكلما مرت الأيام، بدت المناظرة عسيرة المنال مخيفة. كان "فورولو" قد بدأ يشعر وهو يعمل بوهن عزيمته. كان يرى نفسه في شهر جوان عائداً إلى القرية ومعه كتبه التي لا تجدي نفعاً وشهادته التي لا تصلح لشيء وستستقبله أمه باكية، ولكن متسامحة كعادتها، وسيستقبله أبوه خائب الظن بائسا. كان يتخيل احتقار سائر الناس له، وأحيانا كان يشعر بالثقة تغمره، كان يجازف بمصير ذويه..بورقتهم الأخيرة. وقبل أسبوع من اليوم الموعود، كان على هذه الحال من التفكير. كان أبوه نزل إلى المدينة حتى يأتيه بقليل من المال يضمن نفقات إقامته بمدينة الجزائر. خرجا إلى الطريق المعبدة وأخذا يتجولان في انتظار مرور الشاحنة التي كان ينبغي أن تعود برمضان. قال لابنه :

" أنت ذاهب إلى الجزائر. ستكونون كثراً هنالك، لكن لن يختاروا منكم إلا نفراً قليلا، والاختيار دوماً موكول إلى الصدفة. أما نحن هنالك فوق، فسننتظر. إن أخفقت فعد إلى المنزل متأكداً من صدق محبتنا لك. ثم إن معرفتك لن ينتزعها منك أحد، أليس كذلك ؟ إنها لك، والآن ينبغي أن أصعد إلى القرية، ستعلم أمك أني تحدثت إليك، سأقول لها إنك لست خائفا."

-نعم، قل لهم هنالك، فوق: "إني لست خائفا".

                                           نجل الفقير ص136

اختر جوابا مناسبا للسؤالين الأول والثاني والتاسع وعلل إجابتك وأجب عن بقية الأسئلة:

1- علام تدل استشارة والد "فورولو" وأهل قريته له وتعظيمهم إياه ؟

            ا- على فرحهم بنجاحه.

           ب- على تقديرهم لأهمية العلم.

           ج- على انخداعهم بمستواه العلمي.

2- لماذا شعر بأنه وحيد؟

            ا- لأنه الذكر الوحيد في الأسرة.           

           ب- لأنه انعزالي بطبعه.

           ج- لأنه المتعلم الوحيد في القرية.

3- لماذا يخاف أن يخفق في السنة الأخيرة ؟ وما المصير الذي ينتظره إن أخفق؟

4- ما المشاعر المتناقضة التي كانت تسيطر عليه ؟ وهل مرت بك مثل هذه المشاعر قبل الامتحان؟ تحدث عن تجربتك الشخصية.

5- ما الخطوات التي يجب أن نتبعها لمواجهة الامتحان دون خوف؟

6- ما الذي فعله الأب ليبعد عن ابنه الخوف؟

7- ماذا تعني عبارة: "ثم إن معرفتك لن ينتزعها منك أحد" ؟ وما الفرق بين العلم والمال في هذا المجال؟

8- هل تعتقد أن العلم هو أداة للوظيفة والعمل فحسب؟ علل إجابتك.

9- ما غرض الكاتب من النص؟

            ا- إظهار صعوبة الامتحانات وخوف "فورولو" من الإخفاق في الامتحان.

           ب- بيان ندرة العلم زمن الاستعمار. وكفاح أسرة "فورولو" لتعليمه.

           ج- إظهار زهو الأسرة بابنها المتعلم.

10- بين انفعالات الابن والأم والأب في النص؟

11- ما رأيك في سلوك الأب الأمّي؟ وهل تعتبره جاهلاً أم مثقفاً؟ وما الفرق بين المتعلم والمثقف في نظرك؟

3. التمييز بين الذكر والأنثى (إلفة الادلبي):

ثم يلتفت أبي نحو أخي الكبير "راغب" الذي رسب في صفه تلك السنة ويقول له:

"يا حمار. . . هذه البنت التي تصغرك بست سنوات تساوي في نظري عشرة صبيان مثلك، الم تخجل أمامها بطولك وعرضك؟ هي تنجح وأنت ترسب في صفك؟ كنت تقضي أوقاتك كلها باللعب، وأكل الهوى حين كانت هي تدرس وتدرس، وماذا ينفعها العلم؟ غدا ستتزوج وتنقطع إلى بيتها وأولادها، أما أنت فماذا يساوي الرجل في عصرنا هذا بلا علم وشهادات؟"

ويحمر وجه أخي "راغب" وينكسر رأسه دون أن ينطق بكلمة واحدة . ويردف أبي قائلا :

"لو كان حظي كبيرا لكنت خلقت أنت البنت وهي الصبي." 

لم يدرك أبي أبدا ـ ربما لجهله بأصول التربية ـ أنه كان بتصرفه هذا يزرع بذور الكره في قلبيْ ولديْه.

لا أدري لماذا لم يخطر له ولو مرة واحدة حين كان يوبخ راغب على إهماله في دراسته ـ وما أكثر ما كان يوبخه أمامناـ أن يقارنه بأحد أخويْه محمود أو سامي  اللذيْن كانا ينجحان أيضاً كلَّ سنة؟

ما كان يحلو له إلا أن يقارنه بي وحدي، إمعاناً في إهانته لأني بنت وأصغر الإخوة أيضا. وراح الكره يكبر معنا حتى رسخ في قلبنا. لا شك عندي الآن أنه كان لهذا الكره تأثير كبير على مجرى حياتي كلها. وربما على حياة "راغب" أيضا".

دمشق يا بسمة الحزن ص 69 - 70

الأسئلة: 1- وضح مساوئ المقارنة بين الإخوة في التربية، فقدرات ومهارات كل فرد تختلف باختلاف ذكائه وإمكانياته.

2- ما الذي أورثته هذه المقارنة بين الأخت وأخيها في مجرى حياتهما؟

3- ما العبارة أو العبارات التي تدل على تمييز الأب في المعاملة بين الذكر والأنثى؟ وما رأيك في التمييز بين الجنسين؟ هات أمثلة من الواقع إن وجدت.

4- ما العذر الذي تجده الكاتبة لأبيها في تصرفه هذا؟ وهل يلام الأب على جهله مادام يوفر لأبنائه العلم الذي حرم منه؟ علل إجابتك.

5-  ما غرض الكاتبة من النص؟

6- ما التقنية التي استعملتها الكاتبة في عرض موضوعها ؟

4. الفنون جنون(جبرا إبراهيم جبرا):

أخرج وديع إضبارة على شيء من الكبر. فحسبت أنه يريد أن يطلعني على خرائط أو تخطيطات هندسية قد تهمني، لعلمه بأنني مهندس. ولما فتح "البورتفوليو"، وجدته مليئا بأوراق سميكة كبيرة كلها خطوط وألوان. وأخذ ينشر أمامنا رسوما زيتية. لبضع لحظات وقفت أمام أول صورة أقامها على الفراش الضيق، مشدوها لا أعرف كيف أستجيب.

سألته وقد جلست على سريره:

" من رسمها؟"

- أنا

- أنت؟ أهذا ما تفعله عندما تدير ظهرك للاستيراد والتصدير؟

- نعم.

وقبل أن أعلق على الصورة أخرج أخرى أطبقها على السابقة، ثم أخرى، ثم أخرى. جعل ينثر الرسوم، وكلها على ورق، ذات اليمين وذات الشمال. لقد كانت رسوما مريعة لا أزعم أنني فهمتها، تعج بالوجوه، وجوه مشطورة، وجوه نائمة، ميتة، خضراء وحمراء وصفراء، حولها أقمار وشموس، وأغصان ملتوية يابسة، وأيد كبيرة مخيفة الأصابع.

قال: "من عادتي أن أرسم على ورق، لأن حمل الصور الورقية سهل كلما احتجت إلى سفر."

فقلت: "ولكن رسومك رهيبة. من يعرفك من كلامك ودعابتك، لن يخطر له أن في ذهنك خواطر مرعبة كهذه."

- كوابيس أصح من «خواطر".

قالها وعلى شفتيه ابتسامة، كأنه يهزأ بي و"بفرنندو"، أو كأنه يضحك من نفسه. ثم أكمل: "ولذا، فمن الصعب على المرء أن يعايش رسوما كهذه."

- ولكن يبقى السؤال الذي يسأله الناس دائما:" لماذا تفرض كوابيسك على الناس؟ إنهم ينشدون قليلا من النسيان، قليلا من خداع النفس."

- إذا لم يكن الفن متصلا بجحيم النفس، فإنه لن يتصل بفراديسها. الفنانون الذين يستجيبون دائما لما يريد الناس طرّاشون، صبّاغون. سمِّهم ما شئت. لا يعرفون تلبد السحب السوداء، وما يتلوه من صواعق ورعود. من أمطار وخصب. الصورة التي لا تنتهي إلى إخصاب في نفس المشاهد، كيف يمكن أن تكون أكثر من ضحك على الذقون؟ مصيبتنا أننا نحاول رفض الحضارة إذا كانت حضارة وهم، ولكننا جزء من حضارة "الفانتازيا" رغما عن أنوفنا إلى أن يفاجئنا الكابوس، ويتجسد أمامنا العدو الذي نتحايل عليه لكي ننساه أو ينسانا. فنعود راكضين في حلقتنا المفرغة إلى بعض من وهم .

- ربما إلى بعض من حقيقة؟ إني أرفض فأهرب لأبحث عن واقع أتكافأ معه."

 لما كان بعض حديثنا بالعربية، فقد أشغل "فرنندو" نفسه بالتمعن في الصور، يتناولها واحدة واحدة ويهز رأسه، عن رضا أو غير رضا. وإذا هو يخبط بظاهر يده ويقول بالانكليزية:

" عندما لا أفهم الصورة، أتمتع بها."

فقلت وأنا أتأمل اللوحة:

" متعي أنا ذهنية صرف. أنا أتلذذ برؤية النسب والعلاقات والتقابل بين الخطوط والأجسام. إنها المتعة التي تجدها في حل مسألة رياضية معقدة."

"ولكن". قال وديع: " ليس في الفن من حلول. المسألة، هي المهمة. أما الحل، ففي العدد القادم الذي لن تشتريه. أنا أتمتع بما يمزقني من الداخل . بما يشعرني بأنني أسير يمينا وشمالا في وقت واحد."  

                                     السفينة ص72

الأسئلة:

1- إلى أي مذهب تنتمي لوحات الكاتب في نظرك: الكلاسيكية، الرومانسية، الواقعية، الرمزية أو السريالية؟ 

2- بين خصائص اللوحة في كل مذهب من حيث الأشكال والألوان والإضاءة ثم عرف بمن يمثل هذه المذاهب من فناني بلدك.

3- ما الأشكال والألوان التي استعملها وديع في لوحاته؟

4- لماذا وجد الراوي رسومه رهيبة ؟ وما تبرير الرسام؟ وهل وظيفة الفنان أن ينقل العالم كما هو أو كما يراه أو كما يريد أن يكون؟ وضح رأيك وعلله.  

5- كيف ينظر"فرنندو" إلى اللوحة وكيف ينظر إليها الراوي وما الفرق بين الرؤيتين؟

6- كيف تفسر الكوابيس التي تحدث عنها الرسام إذا عرفت أنه فلسطيني؟

7- ما آخر المعارض الفنية التي زرتها وأهم اللوحات التي لفتت نظرك فيها؟ وكيف تنظر إلى اللوحة: بإحساسك أم بعقلك؟ وضِّحْ وعلـِّلْ .

5. التذوق الفني (د. سهيل إدريس):

"وقد اقترحت عليه جانين يوما أن يزورا بعد ظهر يوم الأحد متحف "رودان" الدائم.  وهناك اكتشف أنها فتاة ذات ثقافة فنية، وأنها تتذوق الأثر تذوقا مرهفا. وكان يدرك هو أنه مقبل في ذلك على أمر شاق، شأنه في هذا شأن كل شرقي تعوزه الثقافة الفنية غالبا. على أنه أيقن منذ ذلك اليوم أن الذوق الفني إنما يكتسب بالعلم والممارسة والصبر، ولا يخلق مصنوعا في النفس، كما أيقن أن بوسعه أن "يتعلم" التذوق فيقف مليا أمام الخطوط والحنايا ويرتشف الأضواء والظلال، ويكتشف سر الروعة في لوحة غامضة، أو تفجُّرَ الحياة من ضربة إزميل في تمثال. ثم فهم أن عليه أن يصابر طويلا ليستسيغ الموسيقى الكلاسيكية ويستعذبها، ويعيش منها في ساعات هنيئة. ولكنه ظل مؤمناً بأن المسرح  كان يوفر له من المتعة الفكرية حظاً لا تبلغه في نفسه سائر الفنون، وهو لا يذكر أنه تردد يوما في أن يؤثره على سواه، أو في أن يضن عليه بماله، على قلة ماله. والحق أنه بدأ يشعر بأن حب باريس يتغلغل في دمه وهو قابع على إحدى هذه الكراسي غير المريحة غالبا، متجه الأنظار إلى خشبة المسرح."

                                      الحي اللاتيني ص 118

الأسئلة:

1- لماذا تعوز الشرقي الثقافة الفنية غالبا في رأي الكاتب؟ وهل هذا ينطبق على الجزائري؟ علل إجابتك.

2- أين يبدأ الأوروبيون اكتشاف ذوقهم الفني في الرسم والنحت والموسيقى والمسرح؟

3- هل هناك اهتمام جدي بتدريس المواد الفنية في بلادنا؟ وما هي النقائص إن وجدت؟ وكيف تقترح تداركها؟

4- أين يمكن أن يتعرف التلميذ والمواطن بشكل عام على هندسة وزخارف الأبنية والمساجد والقصور؟ وأين يتعلم أن يميز بين أشكالها العربية والتركية والميزابية والقبائلية والطارقية والرومانية والأوروبية ويعرف مزايا كل منها؟ هل في المدرسة أم في المتاحف أم في الرحلات الدراسية والسياحية؟ بين دور كل منها.

5- أين يمكن أن يكتسب حب المسرح ؟ وكيف ؟

6- اذكر بعض رواد الفنون التشكيلية والعمارة والموسيقى والمسرح في بلدك؟

6. نوبة من الموسيقى الأندلسية (عبد الحميد بن هدوقة ):

في صدر الباحة، قرب الفسقية جلس المغني ذو الصوت الرخيم وإلى جانبه فرقته الموسيقية المتركبة من فنانين هم عماد ما تبقى من خيرة عازفي الموسيقى بالجزائر. هذا يمسك عوداً وهذا "قويترة" وذاك رباباً والآخر كمنجة، بينما الذي بجانبه أمسك بطار حساس، أقل نقرة تثيره فيهتز كالمحموم! صاحب الطبلتين الصغيرتين يمسك بعودين رقيقين رشيقين، على أهبة للنقر بهما على الطبلتين اللتين تتحدثان عن ذكريات ماض سحيق.  

المدعوون اتخذوا مجالس لهم على طول وعرض القاعة ودورانها بالفسقية. باقات الزهور التي جاء بها المدعوون اتخذت أماكنها كالنجوم، أو كالفواصل بين جمل غرامية ملتهبة. الجو كله روعة وكله شاعرية وكله إمتاع. انتظر الناس المغني وتساءلوا ترى ماذا سيفتتح به، وماذا سيغني؟

أخذ كمنجته وأشار إلى عازف العود، وإذا باستخبار رقيق ينطلق من الأوتار موتوراً حائرا. لكن بعض من لهم خبرة بالموسيقى الأندلسية الجزائرية لم يتحيروا كثيرا في إدراك المقطوعة الشعرية التي ستتبع بعد لحظات هذه الأنغام. فحيوا برؤوسهم مرحبين بما اختار لهم المغني.

فيبدأ هذا بلحن هو العذوبة في أصفى معانيها. ومع اللحن تتركب الكلمات الشعرية شيئا فشيئا، ويفهم من لا يعرف الأغنية أنها:

كم بعثنا مع النسيم سلامـا     للحبيب الجميل حيث أقاما

وسمعنا الطيور في الرَّوض تشدو    فنقلنا عن الطّيور كلامـا

وهي في طبع الزيدان. ظن الحضور أن المغني سيستمر في الزيدان، ولكنه فاجأهم. . . لقد انتقل إلى نوبة الذيل، وراح يقدم له بصوته العذب من الألحان ما ألبس عليهم أمرهم!

كان ينظر إلى الأرض في خشوع وتبتّل إلى ألحانه. أصابعه تتحرك على أوتار الكمنجة بحنان ولطف، تداعب عنقها، بينما كان القوس الصغير يغدو ويروح ثملا على خصرها ومن كل ذلك تتألف الألحان العذاب الرقاق التي جعلت الشيخ "علاوة" يشعر بنشوة ووجْدٍ صوفي غريب!

والتقى الحضور في تلك السماوات العلى من الفن الأندلسي بالماضي روحا لروح كما تصوره لهم أخيلتهم. وجالسوا في تلك اللحظات القصار الخارجة عن الزمن ملوك الأندلس في أبهاء قصورهم.

أنْسِيَ الحضور أنفسهم ودنياهم، وحلقوا في ملكوت نوبة الذيل في نشوة بحيث أنه لما انتهى المغني من الأداء ساد الصمت فترة.

                                          بان الصبح ص 204

توضـيـح:

. طبع الزيدان يقابل مقام الحجاز في المشرق العربي.

. الذيل يقابل مقام الراست في المشرق العربي.

تنقسم النوبة في الطبع والمقام إلى خمسة أقسام رئيسية هي:

المصدَّر- البطايحي- الدرج ـ الانصراف – الخلاص .

الاستخبار: مقدمة موسيقية لا يصاحبها الإيقاع، ويمكن أن تكون حوارا بين الآلات والمغني.

الأسئلة:

1- استخرج من النص أسماء الآلات الموسيقية الوترية والآلات الإيقاعية. وبين الفرق بين اللحن والإيقاع.

 2- بين أعلام الموسيقى الأندلسية في منطقتك. وفي المناطق الأخرى من الجزائر. وأعلام الموشحات العربية في المغرب والمشرق.

3- من طور الموسيقى في الأندلس. وكان له تأثير كبير في النوبات الأندلسية؟

4- كم عدد نوبات الموسيقى الأندلسية؟ و كم بقي منها مدونا حتى الآن؟

5- ما نوع الموسيقى التي تحبها وتستمع إليها؟

7. التمزق بين حضارتين (الطاهر وطار ):

"رأيتني ممزقا بين أنا وبين آخر غيري.

نصفي ممتلئ بالقران الكريم وبالحديث النبوي الشريف

وبابن عربي والمتبني والجاحظ والشنفرى وامرئ القيس وزهير بن أبي سلمى ومحمد بن عبد الوهاب ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني. ونصفي الآخر ممتلئ بماركس وإنجلز ولينين وسارتر وغوركي وهيمنغواي وهيغل ودانتي.

نصف الروح لي ونصفها الآخر يسكنها غيري.

أمّا جسمي و منظري الخارجي، فلم يبق منه سوى شبح بطل في المسلسلات والأفلام  وبعض سكان الفلوات .

حاولت استعادة أنا. نصف أنا الضائع. فما أفلحت. حاولت التخلص من الآخر. فأخفقت.

                   الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي ص56

الأسئلة:

1- ما التناقص الموجود بين الحضارتين العربية الإسلامية والغربية ممّا يسبب تمزق الكاتب؟

2- بيِّن رموز الحضارتين ممن ذكروا في النص وبمَ اشتهر كل منهم؟

3- هل من الأفضل في هذا العصر الجمع بين الحضارتين أم التشبع بإحداهما ؟وضّح وعلـّل.

4- كيف يمكن تحويل التناقض بين الحضارتين إلى تكامل بينهما بالنسبة إلى الأجيال الجديدة؟

5- يدعو المتطرفون إلى صدام الحضارات ويدعو المعتدلون المتسامحون إلى الحوار بينها. بين الفرق بين المصطلحين والنتائج التي تعود على البشرية في حال الصدام وحال الحوار.

8. النهوض بأعباء الحياة (محمد ديب) :

"وفيما كان كل منهم عائدا إلى أرضه وحيدا مع نفسه، كان يقلب في فكره الأقوال التي سمعها من بن أيوب. وتذكروا عندئذ ما سبق أن قاله لهم أخيرا:

"حياتنا هذه ليست حياة. حياتنا التي نعيشها من أقدم أسلافنا ليست الآن حياة. إننا نعيش في ملل وضجر، فاقدين القدرة على الحياة. آباؤنا وأجدادنا وآباء أجدادنا كانت عليهم جميعا واجبات. كانت الحياة عندهم لا تخلو يوما من الواجبات.

يدفعني إلى قول هذا الكلام ما نعرفه عنهم، وما ترامى إلينا من أخبار زمانهم، وما كانوا يرونه من رأي في الحياة. وشعورهم بتلك الواجبات هو الذي جعل منهم رجالا. أما نحن فإننا لم نجد خيرا من التحلل من واجباتنا: نأكل كالبهائم، ولا نفكر في شيء البتة. لم يبق ثمة واجبات. نحن أناس أصبحوا بغير أعباء ينهضون بها. فالحياة تبدو لنا عقيما غير ذات جدوى. وأعمالنا تبدو لنا عقيما غير ذات جدوى. نحن أنفسنا نسير على هذه الأرض بغير جدوى. أصبحنا لا نجد في الأعمال التي نقوم بها أي فرح. أصبحت أعمالنا قديمة بالية. وأصبحنا لا نجد في صداقاتنا أي فرح كذلك. لا ولا فيما يتبادله بعضنا مع بعض من كلام. ولا في رؤية أولادنا يكبرون، ولا في النظر إلى الأرض التي نملكها وهي تثمر وتعطي خيراتها. ذلك كله دليل على أننا في حاجة إلى أعباء جديدة. إننا لا نعيش ولا نعمل إلا بحكم الضرورة. من أجل أن لا تنطفئ الشعلة، منتظرين أن تقبل أيام أفضل من هذه الأيام. أما الفرح، فلا. وستعود إلينا الحياة بفرحها متى اكتشفنا أعمالا جديدة نقوم بها."

هل الجار بن أيوب على صواب؟ هل هو على خطأ؟ ستبدي الأيام لنا ذلك. هذا ما كان مزارعو "بني بو بلان" يقلبونه في أذهانهم في ذلك المساء الهادئ.

وانقضت بضعة أيام. وفرغ صبر عيسى وبوشناق ومحمد ونجار. فمضوا مجتمعين إلى بن أيوب. قالوا له:

"اذكر لنا ولوْ عملا واحدا من الأعمال الجديدة التي طالما حدثتنا عنها."

- خذوا هذا المثال. إن معظم فلاحينا يحرثون الأرض عمق إبهام. وينبغي لهم الآن أن يحرثوها عمق ذراع.

قال بن أيوب ذلك. وحدق إلى الرجال الأربعة.

- هل تفهموني الآن؟

- طيب طيب. "

                        الدار الكبيرة، الحريق، النول ص 208

الأسئلة:

1- لماذا أصبحت حياة الفلاحين عقيمة بلا معنى؟ وكيف يمكن أن يصبح لها معنى؟

2- هل ترى أن انعدام الإبداع والخلق لدى الأبناء والأحفاد يعود إلى الاستعمار أو التخلف أو الكسل؟ علّل رأيك.

3- ما مدى تأثير انتقادات بن أيوب على الفلاحين؟

4- ما المثال الذي أعطاه بن أيوب عن الأعمال الجديدة التي على الفلاحين أن يكتشفوها؟ وما أهمية هذا المثال كنموذج للأعمال الجديدة؟

5- كيف نطبق ما قاله بن أيوب في وضعنا الحالي وفي كل المجالات؟

9. بين الشمال والجنوب (الطيب صالح):

لا نجد كمقدمة لهذا النص خيرا من إيراد الفقرة الأولى من تقديم الأستاذ توفيق بكار لرواية الطيب صالح. وكما يفسر التقديم كثيرا من رموز الراوية، تساعد الفقرة الأولى منه التلميذ على فهم النص الذي يختم به الكاتب روايته:

"النجدة النجدة"

على هذه الصيحة المفزعة ينغلق "الموسم" والبطل الراوي موشك على الغرق في النهر – نهر التاريخ- وهو في منتصف الطريق "بين ضفة الجنوب وضفة الشمال، شاطئ القدم وشاطئ الحداثة. ساحل الحضارة العربية وساحل التمدن الأوروبي. فلا يستطيع المضي إلى أمام ولا "يستطيع العودة" إلى وراء.

                            مقدمة موسم الهجرة إلى الشمال ص 9

"دخلت الماء عارياً كما ولدتني أمي. أحسست برجفة أول ما لامست الماء البارد، ثم تحولت الرجفة إلى يقظة. النهر ليس ممتلئا كأيام الفيضان ولا صغير المجرى كأيام التحاريف. وقادتني قدماي إلى الشاطئ وقد لاحت تباشير الفجر في الشرق. سأنفس عن غيظي بالسباحة. كانت الأشياء على الشاطئين نصف واضحة. تبين وتختفي، بين النور والظلام. كان النهر يدوي بصوته القديم المألوف، متحركا كأنه ساكن. لا صوت غير دوي النهر وطقطقة مكنات الماء غير بعيد. وأخذت أسبح نحو الشاطئ الشمالي. وظللت أسبح وأسبح حتى استقرت حركات جسمي مع قوى الماء إلى تناسق مريح.

لم أعد أفكر وأنا أتحرك إلى الأمام على سطح الماء. وقع ضربات ذراعيَّ في الماء، وحركة ساقيَّ، وصوت زفيري بالنفس ودوي النهر، وصوت المكنة تطقطق على الشاطئ. لا أصوات غير ذلك. ومضيت أسبح وأسبح وقد استقر عزمي على بلوغ الشاطئ الشمالي. هذا هو الهدف. كان الشاطئ أمامي يعلو ويهبط، والأصوات تنقطع كلية ثم تضج. وقليلا قليلا لم أعد أسمع سوى دوي النهر. ثم أصبحت كأنني في بهو واسع تتجاوب أصداؤه. والشاطئ يعلو ويهبط. ودوي النهر يغور ويطفو. كنت أرى أمامي في نصف دائرة. ثم أصبحت بين العمى والبصر. كنت أعي ولا أعي. هل أنا نائم أم يقظان؟ هل أنا حي أم ميت؟ ومع ذلك كنت ما أزال ممسكا بخيط رفيع واهن: الإحساس بأن الهدف أمامي لا تحتي، وأنني يجب أن أتحرك إلى الأمام لا إلى أسفل. لكن الخيط وهن حتى كاد ينقطع، ووصلت إلى نقطة أحسست فيها أن قوى النهر في القاع تشدني إليها. سرى الخدر في ساقي وذراعي. اتسع البهو وتسارع تجاوب الأصداء.

الآن، وفجأة، وبقوة لا أدري من أين جاءتني، رفعت قامتي في الماء. سمعت دوي النهر وطقطقة مكنة الماء. تلفت يمنة ويسرة فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال والجنوب. لن أستطيع المضي ولن أستطيع العودة. انقلبت على ظهري وظللت ساكنا أحرك ذراعيَّ وساقيَّ بصعوبة بالقدر الذي يبقيني طافياً على السطح. كنت أحس بقوى الشر الهدّامة تشدني إلى أسفل وبالتيار يدفعني إلى الشاطئ الجنوبي في زاوية منحنية. لن أستطيع أن أحفظ توازني مدة طويلة. إن عاجلا أو آجلا ستشدني قوى النهر إلى القاع. وفي حالة بين الحياة والموت رأيت أسرابا من القطا متجهة شمالا. هل نحن في موسم الشتاء والصيف؟ هل هي رحلة أم هجرة؟ وأحسست أنني أستسلم لقوى النهر الهدامة. أحسست بساقيَّ تجران بقية جسمي إلى أسفل. في لحظة لا أدري هل طالت أم قصرت تحول دوي النهر إلى ضوضاء مجلجلة. وفي اللحظة عينها لمع ضوء حاد كأنه لمع برق ثم ساد السكون والظلام فترة لا أعلم طولها. لمحت بعدها السماء تبعد وتقرب والشاطئ يعلو ويهبط. وأحسست فجأة برغبة جارفة إلى سيجارة. لم تكن مجرد رغبة. كانت جوعا. كانت ظمأ وقد كانت تلك لحظة اليقظة من الكابوس. استقرت السماء واستقر الشاطئ وسمعت طقطقة مكنة الماء. وأحسست ببرودة الماء في جسمي.

كان ذهني قد صفا حينئذ، وتحددت علاقتي بالنهر. إنني طاف فوق الماء ولكنني منه. فكرت أنني إذا مت في تلك اللحظة فإنني أكون قد مت كما ولدت، دون إرادتي. طول حياتي لم أختر ولم أقرر. إنني أقرر الآن أنني أختار الحياة. سأحيا لأن ثمة أناساً قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقت ممكن ولأن علي واجبات يجب أن أؤديها. لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى. وإذا كنت لا أستطيع أن أغفر فسأحاول أن أنسى. سأحيا بالقوة والمكر. وحركت قدميَّ وذراعيَّ بصعوبة وعنف حتى صارت قامتي كلها فوق الماء. وبكل ما بقيت لي من طاقة صرخت، وكأنني ممثل هزلي يصيح في مسرح: " النجدة. النجدة."

موسم الهجرة إلى الشمال ص 153

الأسئلة:

1-   ما قوى الشر التي تحاول أن تشد الراوي إلى أسفل؟ هل هي الخرافات أم التطرف الديني أم الصراع القبلي في السودان بلد الكاتب؟ وضح رأيك وعلله. وبين هل القوى التي يتحدث عنها الكاتب أو ما يماثلها موجودة في الجزائر.

2-   كيف يمكن أن تخرج المجتمعات النامية من حالة السكون والجمود إلى حالة الحركة والفعل؟

3-   هل يكمن الحل في هجرة الشباب إلى المجتمعات المتقدمة؟ وضح رأيك وعلله.

4-   هل يمكن الجمع بين التراث والحداثة؟ وما الذي نأخذه من كل منهما لإقامة مجتمع متماسك ومتقدم علميا وتكنولوجيا.

10. القاضي الباحث عن العدالة (ستيفان زفايج):

حكم القاضي" فيراتا" على المتهم القاتل بالسجن إحدى عشرة سنة، وبجلده مائة جلدة، وقال له: " لقد عاقبتك عقوبة عادلة، ولكن المتهم أجابه: "ولكن يا أيها  القاضي. ما هو المقياس الذي تقيس به العدالة؟ ومن ألهبك بالسوط حتى تعرف ما هو الجلد؟ وكيف تستطيع أن تحصي السنين على أصابعك كأن السنة التي تمضي في ضوء النهار مثل السنة التي تقضى في غياهب الأرض؟"

ولم ينم القاضي في تلك الليلة. وفي الصباح قرر في نفسه أمرا. وتوجه إلى قصر الملك. وطلب منه أن يمنحه إجازة شهر للاستجمام ثم توجه إلى السجن. وطلب مقابلة السجين المحكوم. وكانت حجرة السجين على بعد خمس طبقات من الدرجات عن سطح الأرض. وكان عمقها تحت الأرض أبعد مدى من ارتفاع أطول شجرة من شجيرات النخيل. ودخل "فيراتا" وأمسك بالشعلة فوق كتلة مظلمة لم تكد تتحرك برهة من الزمان. ثم صلصل القيد.

وانحنى فيراتا فوق الشخص المنطرح على الأرض وقال: "أتعرفني"؟

- "أعرفك. فأنت من جعلوا في يده مصيري. وقد دسته بقدميك."

- "ليس في يدي مصير أحد، وأنا خادم الملك والعدالة، وقد جئت لأخدم العدالة"

فنظر السجين إلى القاضي نظرة ثابتة حزينة: "ماذا تريد مني؟ "

وبعد صمت طويل أجاب فيراتا:

" لقد نلت منك بالكلمات التي وردت في حكمي، وأنت كذلك نلت مني بألفاظك، ولست أدري هل كان حكمي عادلا، ولكن ما قلته كان ينطوي على حق، لأنه يجب على الإنسان ألا يقيس بمقياس لا يعرفه، ولقد كنت جاهلا، ويسرني أن أتعلم، ولقد أرسلت بالمئات إلى مأوى الظلام هذا، ولقد قضيت على أشخاص كثيرين. دون أن أعرف ما أنا صانع، والآن أريد أن أبحث وأريد أن أعرف لكي أصير عادلا، وأبقى يوم انتقال الروح بريئا من شوائب الخطيئة. فظل الأسير جامدا لا يتحرك، ولم يُسمع شيء سوى صلصلة القيد، واسترسل فيراتا قائلا:

"أريد أن أعرف ما حكمت عليك بمعاناته، وأريد أن أشعر بوقع السياط على جسدي، وأن أجرب بنفسي حياة السجن. وسأقيم في مكانك مدة شهر لكي أتعلم ما كنت أقتضيه الناس تكفيرا عن ذنوبهم، وسأنطق بعد ذلك بالعقوبة في مكان الحكم، وأنا عالم بما أقضي به وستكون حرا أثناء ذلك، وسأعطيك المفتاح الذي تستطيع أن تفتح به هذا الباب المؤدي إلى عالم النور وسأمنحك الحرية مدة شهر، شريطة أن تعدني بالعودة، وسينفذ الضوء إلى عقلي من ظلمات هذه الأعماق"

فوقف الأسير كأنه قدَّ من الصخر، ولم تُسمع صلصلة قيده.

ـ "أقسم لي بأنك ستلتزم الصمت خلال هذا الشهر، وأنا أعطيك المفتاح وملابسي، وعليك أن تترك المفتاح خارج حجرة البواب، وتنطلق بعد ذلك حرا، ولكنك ستظل مقيدا بقسمك بأن تحمل هذه الرسالة إلى الملك ليطلق سراحي من السجن حتى أحكم بعد ذلك بالعدل، فهل تقسم بأن تنفذ هذه الوصية؟"

فانبعث صوت متهدج كأنه مقبل من أعماق الأرض يقول: "أقسم على ذلك".

ففك فيراتا قيود السجين وتجرد من ملابسه. وقال: "البس هذه الثياب، وأعطني ثيابك، وأخف وجهك حتى يخالك السجان إياي. والآن قص شعري ولحيتي حتى أظل أنا كذلك مجهولا".

وتحت تأثير نظرات فيراتا الآمرة، فعل السجين ما أمره به مرتجفا مترددا، ولاذ بالصمت مليا، وأخيرا ارتخى على الأرض ونشج باكيا في تأثر بالغ:

"لا أستطيع احتمال مكابدتك الشقاء بدلا عني، لقد قتلت ويداي مضرجة بالدم والقضاء كان عادلا".

"لا أنت ولا أنا نستطيع أن نقرر عدالة هذا القضاء، ولكن سرعان ما يشرق الضوء على عقلي، فاذهب كما أقسمت، وحينما يعاود القمر اكتماله احمل كتابي إلى الملك ليطلق سراحي، وحينما يجيء الوقت سأعرف ما أنا قائم به من الأعمال، وستكون أحكامي بريئة من مجافاة العدالة فانصرف."

فركع الأسير وقبَّل الأرض ودوى صرير الباب المغلق في الظلام، ونفذت مرة أخرى من خلال كوة أشعة من الشعلة، وخفقت على الحيطان ثم اكتنف ظلام الليل الساعات. وفي صباح اليوم التالي، جلد علانية فيراتا الذي لم يعرفه أحد، وحينما صب على ظهره العاري أول سوط أطلق صرخة، ولكنه لم يلبث أن أطبق على شفتيه وضغط على أسنانه، وفي الضربة السبعين غشي عليه، وحمل بعيدا كالوحش الميت.

ولمّا ثاب إليه وعْيُه كان مستلقيا في الحجرة، وخيِّل إليه أنه قد انطرح على فراش من الفحم المشتعل، ولكن جبينه كان باردا، واستنشق رائحة الأعشاب المتأبدة. ولما فتح عينيه قليلا أبصر زوجة السجان إلى جانبه تبلل جبينه في رفق، ولما نظر إليها بانتباه أكثر. أدرك أن نجمة العطف كانت تشرق عليه من نظرتها، وتحقق وهو يعاني من الآلام الجسدية أن معنى الحزن يمكن في سماحة العطف".

فيراتا ص26

الأسئلة:

1- لماذا اعترض المتهم على الحكم ولم يجده عادلا؟

2- ما رأيك في تصرف القاضي؟

3- قال النبي (ص):

     "القضاة ثلاثة: قاضيان في النّار وقاض ٍ في الجنة، رجل قضى بغير الحق فعلم ذلك، فذلك في النّار، وقاض ٍ لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النّار، وقاض ٍ قضى بالحق فهو في الجنة."

 سنن الترمذي ـ الجامع الصحيح ـ بحث في الأنترنيت

    بيّن معنى هذا الحديث ودلالته. وما تأثير فساد القضاء على المجتمع؟

4- لماذا يطالب الناس دائما بفصل السلطات وباستقلال السلطة القضائية؟ فسّر وعلّل.

5- يقال: "الرحمة فوق العدل". اشرح هذا القول وبين رأيك فيه.

6- اقترح أحد فقهاء القانون أن يقضي كل مرشح للقضاء شهرا في إحدى زنزانات السجن كجزء من برنامج التكوين. ما سبب هذا الاقتراح؟ وما رأيك فيه؟  

تمرين ب: ادرس في الرواية التي تطبق عليها موضوعا ثقافيا رئيسيا أو ثانويا واستخرج عناصره.

تمرين ج: موجه للتلاميذ الراغبين في الكتابة من الكُتـّاب المبتدئين:

اختر موضوعاً من أحد المواضيع الآتية أو أي موضوع ثقافي آخر فكري أو أدبي أو فني وضع مخططا له واختر الشخصيات المعبرة عنه ثم اكتب بعض المشاهد المعبرة عن وجهة نظرك واختر ما يحلو لك من أساليب( الوصف المباشر، الوصف بالفعل، مناجاة النفس، استعادة الذكريات، الحلم، الرسائل اليوميات..الخ.):

. السعادة: استعن ببعض العناصر الآتية: السعادة والمال، السعادة والشباب، السعادة والصحة، السعادة والسلطة، السعادة والحب، السعادة والإبداع، السعادة والعطاء، وأضف أي عنصر تراه مناسبا لموضوعك.

. الحرية: استعن ببعض العناصر الآتية: الاستعمار والحرية، الحرية المطلقة، الحرية والمسؤولية، حرية التنقل، حرية التجارة، قيود الحرية السياسية، قيود الحرية الأخلاقية، قيود الحرية الاجتماعية، وأضف أي عنصر تراه مناسبا لموضوعك.

. العدل: استعن ببعض العناصر الآتية: العدل والجهوية، العدل والعنصرية، العدل والمحسوبية، العدل والرشوة، العدل والقانون، العدل والرحمة، وأضف أي عنصر تراه مناسبا لموضوعك.

ملاحظة: اقرأ التوجيهات الآتية وحاول الاستفادة منها عند إنجاز العمل المطلوب:

        قبل أن تكتب اطرح على نفسك الأسئلة التالية :

        لمن أكتب؟ ولماذا أكتب؟ وماذا أكتب؟ وكيف أكتب؟ 

وهذا يعني تعيين القارئ المفترض وتحديد الغرض واختيار الموضوع والعناية بالأسلوب. وهي عناصر مترابطة وثيقة الصلة فيما بينها.

1-اختيار القارئ:

        الكتابة هي فعل اجتماعي مهما كان نوعها، والكاتب بحاجة إلى من يقرأ له، فالكاتب هو من يكتب للجمهور لا لنفسه. وكل مؤلف يتوجه إلى جمهور معين من القرّاء المتعلمين أو المثقفين أو المختصين، فاختر قارئك وحدّده لتختار الموضوع الذي يهمه، ولتضمن أنه سيقرأ ما تكتب. القارئ هو السّند الحقيقي للكاتب لا الناشر أو الناقد أو وزارة الثقافة أو أصدقاء الكاتب، فيمكن لهؤلاء أن يساعدوه ويمهدوا له الطريق ولكنهم لا يستطيعون فرضه على القارئ ولو طبعوا من كتابه الآلاف وقاموا بالدعاية له وتقريظه في وسائل الإعلام. ولا يتم القارئ الكتاب وإن اقتناه متأثراً بالدعاية ما لم يجد فيه ما يمتعه أو يفيده أو يثير اهتمامه، فضع القارئ نصب عينك عندما تختار موضوعك وإن أخفقت في التواصل معه فأنت تحرث في البحر.

 2-الغرض من الموضوع:

قد يداعب ما تكتب خيال القارئ ويثير اهتمامه أو يخاطب غرائزه وأحاسيسه الدنيا، فيروج الكتاب وتتلقفه الأيدي والعيون ويشتهر الكاتب، ولكن إن لم يكن للكتاب غرض سامٍ وطني أو اجتماعي أو إنساني أو فني، بمعنى أن تكون فيه فائدة أو متعة فنية أوكلاهما معاً، فهو ليس أدباً بل رواية من الروايات الرخيصة.

3- اختيار الموضوع:

واختيار الموضوع يتصل بالعنصرين السابقين، فلا بدّ من اختيار موضوع يثير اهتمام القارئ ويحقق غرض الكاتب. وكثير من الكتب تبقى في الرّفوف لأن الكاتب لم يحسن اختيار موضوع يهم قارئه. فالغرض السّامي وحده ليس جواز مرور أكيد إلى قلب القارئ أو عقله. ومن الطبيعي أن يختار الكاتب موضوعاً يعرف دقائقه وخباياه، فلا يجعل من بطل روايته مثلاً صياداً يصارع سمك القرش في البحر وهو لا يعرف عن الصيد شيئاً، أو طبيباً شرعياً وهو بعيد عن هذه المهنة. فإن اختار موضوعاً يجهله فلا بدّ أن يقوم بأبحاث جادة عنه لمعرفة كل ما يتعلق به.

4- الأسلوب :

وهو طريقة العرض التي يجتذب بها الكاتب القارئ ويجعله أسير موضوعه من بدايته إلى نهايته.

ويحرص الكاتب على الاهتمام بالعناصر الأربعة الآتية:

أ.اللغة: واللغة التي يفهمها القراء هي لغة الحياة ولغة العصر لا لغة المعاجم والقواميس. ومعنى ذلك اختيار المفردات والألفاظ المألوفة والعبارات الواضحة.

        ب: ملاءمة اللغة للموضوع المطروح: فلغة الحب غير لغة الحرب. ولغة المواضيع الاجتماعية تختلف عن لغة المواضيع الفلسفية ولغة الشخصيات في الحوار تختلف بحسب البيئة والثقافة والمهنة.

ج: تقنيات الكتابة: كما يلم كاتب المقالة بتقنياتها والشاعر بالبحور والأعاريض، فعلى الروائي أن يلم كذلك بكيفية بناء الشخصيات الملائمة للموضوع ويحسن نسج العلاقات بينها وإنطاقها بالحوار الواقعي الصادق، ووصف انفعالاتها بدقة تمكنه من تحريك عواطف القارئ.

د. تغذية موهبته الأدبية وتنمية ثقافته اللغوية والعامة: من الطبيعي أن تختلف الموهبة والثقافة والتكوين من شخص إلى آخر، ومن جراء ذلك تختلف الأساليب. وهذا العنصر ينميه الكاتب باستمرار بالقراءة والاطلاع وملاحظة من حوله وما حوله.

 لقراءة الموضوع التالي انقر هنا: الخاتمة

لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الجمال: نجيب محفوظ جزء 2

للاطلاع على فصول الكتاب، انقر هنا: المواضيع الثـقافيّة 

للاطلاع على فصول الكتاب كاملة، انقر هنا:  العلاقات الإنسانية